الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي الحديث: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة، صاح الشيطان: يا أهل الجُبَاجب! هذا مُذَمَّم يبايع بني قَيْلة على حربكم؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: هذا إِزْبُ العَقَبة أَمَا والله يا عدوّ الله لأتفرغن لك». أي أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما.وقيل: إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور، ثم قال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} مما وعدناكم ونوصل كُلًا إلى ما وعدناه؛ أي أقسم ذلك وأتفرغ منه. قاله الحسن ومقاتل وابن زيد.وقرأ عبد الله وأبيّ {سَنَفْرُغُ إِلَيْكُمْ} وقرأ الأعمش وإبراهيم {سَيُفْرَغُ لَكُمْ} بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله.وقرأ ابن شهاب والأعرج {سَنَفْرَغُ لَكُمْ} بفتح النون والراء؛ قال الكسائي: هي لغة تميم يقولون فَرِغَ يَفرَغ، وحكي أيضًا فَرَغَ يَفرَغ ورواهما هُبيرة عن حفص عن عاصم.وروى الجُعْفي عن أبي عمرو {سَيَفْرَغُ} بفتح الياء والراء، ورويت عن ابن هُرْمز.وروي عن عيسى الثّقفي {سَنِفْرَغُ لَكُمْ} بكسر النون وفتح الراء، وقرأ حمزة والكسائي {سَيَفْرُغُ لَكُمْ} بالياء.الباقون بالنون وهي لغة تهامة.والثَّقلان الجنّ والإنس؛ سُمّيا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف.وقيل: سمّوا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياءً وأمواتًا؛ قال الله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} [الزلزلة: 2] ومنه قولهم: أعطه ثقله أي وزنه.وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ووزن يُنافَسُ فيه فهو ثقل.ومنه قيل لبيض النعام ثقل؛ لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به.وقال جعفر الصادق: سمّيا ثقلين؛ لأنهما مثقلان بالذنوب.وقال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} فجمع، ثم قال: {أَيُّهَا الثقلان} لأنهما فريقان وكل فريق جمع، وكذا قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إِنِ استطعتم} ولم يقل إن استطعتما؛ لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45] و{هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ولو قال: سنفرغ لكما، وقال إن استطعتما لجاز.وقرأ أهل الشام {أَيُّهُ الثَّقَلانِ} بضم الهاء.الباقون بفتحها وقد تقدّم.مسألة: هذه السورة و(الأَحْقَاف) و{قُلْ أُوحِيَ} دليل على أنّ الجنّ مخاطبون مكلَّفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنُهم كمؤمنهم، وكافرُهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك. اهـ. .قال الألوسي: {وَلَهُ الجوار} السفن جمع جارية وخصها سبحانه بأنها له وهو تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن للإشارة إلى أن كونهم هم منشئيها لا يخرجها من ملكه عز وجل حيث كان تمام منفعتها إنما هو منه عز وجل، وقرأ عبد الله، والحسن، وعبد الوارث عن أبي عمرو الجوار بإظهار الرفع على الراء لأن المحذوف لما تناسوه أعطوا ما قبل الآخر حكمه كما في قوله:{المنشئات} أي المرفوعات الشرع كما قال مجاهد من أنشأه بمعنى رفعه، وقيل: المرفوعات على الماء وليس بذاك، وكذا ما قيل المصنوعات، وقرأ الأعمش، وحمزة، وزيد بن علي، وطلحة وأبو بكر بخلاف عنه {المنشآت} بكسر الشين أي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، أو اللاتي ينشئن السير إقبالًا وإدبار، وفي الكل مجاز، وشدد الشين ابن أبي عبلة، وقرأ الحسن {المنشآت} وحد الصفة ودل على الجمع الموصوف كقول ه تعالى: {فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] وقلب الهمزة ألفًا على حد قوله: يريد لتهدأ والتاء لتأنيث الصفة كتبت تاءًا على لفظها في الأصل {فِى البحر كالاعلام} كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل.{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات و{مِنْ} للتغليب؛ أو للثقلين {فَانٍ} هالك.{ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} أي ذاته عز وجل، والمراد هو سبحانه وتعالى، فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس، وهو مجاز شائع، وقيل: أصله الجهة واستعماله في الذات من باب الكناية وتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل، وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف، وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ.والظاهر أن الخطاب في ربك للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته، وفي الآية عند المؤولين كلام كثير منه ما سمعت، ومنه ما قيل: الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود، أي ويبقى ما يقصد به ربك عز وجل من الأعمال، وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه، وأقرب منه ما قيل: وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز وجل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه، ومرجع ذلك العمل الصالح أيضًا والله جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء؛ أو لأنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فان} [الرحمن: 26] وقيل: وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها على الشيء من عنده أي إن ذلك باق دون الشيء في حدّ ذاته فإنه فان في كل وقت، وقيل: المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعاطى، والإضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حدّ ذاته أي إذا اعتبر مستقلًا غير مرتبط بعلته أعني الوجود الحق كان معدومًا لأن ظهوره إنما نشأ من العلة ولولاها لم يك شيئًا مذكورًا، وقول العلامة البيضاوي: لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات، وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف، فمنهم من يجعل قوله: لو استقريت إلخ تتمة لتفسيره الأول، ومنهم من يجعله وجهًا آخر، وهو على الأول أخذ بالحاصل، وعلى الثاني قيل: يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة، وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافًا حقيقيًا بأن يكون الوجود زائدًا عليها قائمًا بها، وهو مذهب جمهور الحكماء والمتكلمين، وإما موجودة مجازًا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود قائمًا بها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء، وإليه ذهب المتألهون من الحكماء والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتألهين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حضرة الوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضه لشيء ولا قيامه به ومعنى كون الممكن موجودًا أنه مظهر له ومجلى ينجلي فيه نوره فالله نور السموات والأرض والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه، ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لها صفات متكثرة وشؤونات متعددة وتجليات متجددة {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91] والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين.ووجه التطبيق على الأول أن يقال: المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوه بالغير إذ الممكن وإن كان موجودًا حقيقة عند الجمهور لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات، وجهة الاستفادة ليست هي الذات ولا شيئًا آخر من الجهات والوجوه كالإمكان، والمعلولية، والجوهرية، والعرضية، والبساطة، والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلًا منها جهته الخسة، ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحل عن لوجوب الذاتي المنافية له، وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتي جهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوبًا وإن كان بالغير، ولذا يعقبه فيضان الوجود، ولذا تسمعهم يقولون: الممكن ما لم يجب لم يوجد.ووجه التطبيق على الثاني أن يقال: الوجه الذي يلي جهته تعالى هو تلك النسبة المخصوصة المصححة لإطلاق لفظ الموجود عليها ولو مجازًا، فالمعنى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازًا إلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهرًا له سبحانه، ووجه التطبيق على الثالث أن يقال: المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شؤونات واعتبارات له تعالى.فالمعنى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} معدوم من جميع الوجوه والاعتبارات إلا من الوجه الذي يلي جهته سبحانه والاعتبار الذي يحصل مقيسًا إليه عز وجل، وهو كونه شأنًا من شؤونه واعتبارًا من اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينًا بالله عز وجل.{ذُو الجلال والإكرام} أي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنه تعالى شأنه فهذا راجع إلى ماله سحبانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز وجل أو الذي يقال في شأنه: ما أجلك وما أكرمك أي هو سبحانه من يستحق أن يقال في شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ما له تعالى من الكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه، أو من عنده الجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم، وفسر بعض المحققين {الجلال} بالاستغناء المطلق {والإكرام} بالفضل التام وهذا ظاهر، ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها، ثم ألحق بالحقيقة، ولذا قال الجوهري: عظمة الشيء الاستغناء عن غيره وكل محتاج حقير، وقال الكرماني: إنه تعالى له صفات عدمية مثل: {لاَ شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 163] وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدي بجَلّ عن كذا جل عن كذا وصفات وجودية كالحياة والعلم وتسمى صفات الإكرام، وفيه تأمل.والظاهر أن {ذُو} صفة للوجه، ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء {مَنْ عَلَيْهَا} لا يخل بشأنه عز وجل لأنه الغني المطلق، والإشارة إلى أنه تعالى بعد فنائهم يفيض على الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة، ووصف الوجه بما وصف يبعد كونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفًا وكأن من يقول بذلك يقول: {ذُو} خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له، ثم قطعت عن التبعية، ويؤَيده قراءة أبيّ وعبد الله: {ذي الجلال} بالياء على أنه صفة تابعة للرب، وذكر الراغب أن هذا الوصف قد خص به عز وجل ولم يستعمل في غيره، فهو من أجلّ أوصافه سبحانه، ويشهد له ما رواه الترمذي عن أنس والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعًا «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي الزموه وأثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم، وروى الترمذي، وأبو داود، والنسائي عن أنس «أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، فقال صلى الله عليه وسلم: لأصحابه أتدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى».{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء، والحياة الأبدية، والإثابة بالنعمة السرمدية، وقال الطيبي: المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجلّ النعم، ولذلك خص {الجلال والإكرام} بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب، والتحذير من مثل نعمة، فلذا رتبت عليها بالفاء قوله تعالى: {فَبِأَىّ الاء} إلخ، وليس بذاك.
|